INI

الاثنين، 19 نوفمبر 2012

قراءة في التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية "دراسة حالة الشباب والفضاء السيبرنيقي"


قراءة/ مركز نماء للبحوث والدراسات
11/17/2012

- بين يدي التقرير:
يشكل التقرير العربي للتنمية الثقافية، واحدا من التقارير التي حاولت أن تقوم بمجهود  كبير في رصد حالة الثقافة في الوطن العربي، إذ أنه على مدى أربعة تقارير سابقة، جرى فحص ومعالجة الوضع الثقافي بالمنطقة العربية، باستعمال آليات علمية ومعطيات أكاديمية ومنهجيات ذكية وفريق خبراء متعدد التخصصات، وقد كانت حصيلة هذه التقارير جد ايجابية من حيث أنها توفر للباحث والمهتم والدارس حزمة من المعطيات التي تمكنه من قراءة مستوى تطور البنية الثقافية والفكرية لقضايا الإنتاج العلمي وحالة منظومات التربية والتكوين وغيرها من المجالات.
"في هذا السياق كان من الضروري أن يرصد التقرير العربي، ما دار في الفضاء الرقمي التفاعلي العربي، وقد اهتم بالمدونات والمنتديات وصفحات ومجموعات "الفايسبوك" وغيرها خلال سنة 2010. ليوثق ما جرى من توجهات وما أثير من قضايا شغلت اهتمام الشباب العربي والعرب عموما  في أكثر من 19 دولة عربية وبعض البلدان غير عربية".
لقد انطلق التقرير من سؤال مركزي: ما الذي يشغل الشباب العرب في الانترنيت؟ وما هي القضايا التي تستأثر باهتمامهم؟


أولا: منهجية البحث:
لاشك أن عملية الرصد والبحث في المحتوى الرقمي وما يتفاعل فيه من قضايا وإشكاليات، يحتاج لمنهجية عملية، تقوم على اختيار عينة ممثلة لهذا المحتوى، تكون معبرة إلى حد ما عن محددات هذا المحتوى، في هذا السياق، وتحقيقا لأهداف التقرير، فقد "قام فريق البحث بتجميع عينة من المحتوى العربي بالفضاء الرقمي التفاعلي على مستويين: الأول مستوى وحدات للتحليل، وهي المدونات والمنتديات وصفحات ومجموعات "الفايسبوك". والمستوى الثاني، المواد الموجودة داخل وحدات التحليل، والمقصود بها التدوينات داخل المدونات، والمشاركات داخل المنتديات، والمشاركات داخل الصفحات والمجموعات "بالفايسبوك".

وقد تشكلت عينة البحث بإجمالي 107 آلاف و659 وحدة للتحليل، موزعة على 16 ألفا و631 منتدى، و12 ألفا و934 مدونة، و78 ألفا و94 صفحة ومجموعة "الفايسبوك" أما  مواد التحليل فبلغت 661 ألفا و715 مادة تحليل في المنتديات، و120 ألفا و757 مادة في المدونات و155 ألفا و107 في "الفايسبوك" بإجمالي 937 ألفا و579 مادة".

وعموما يظهر من خلال هذه العينة أنها كبيرة في حجمها، وأنها شاملة لجل ،حتى لا نقول كل، المكونات الرقمية التي يتفاعل معها الشباب العربي.

لم تكن عملية حصر العينة كافية لاستكشاف خريطة الفضاء الرقمي بالوطن العربي، لكن القائمين على البحث في مؤسسة " الفكر العربي" قاموا بعد ذلك بعملية تصنيف ونمذجة هذه المعطيات والقضايا المثارة، حتى تسهل قراءتها، وفي مرحلة تالية استخدموا آليات لتحليل هذا المحتوى.

ثانيا: أهم نتائج البحث:
1) على المستوى العام:
انتهت عملية الرصد إلى أن الفضاء التفاعلي الرقمي العربي انتشرت فيه وشاعت 53 قضية، وهذه القضايا تشكل النواة الصلبة للمحتوى الذي تم تحليله وعرضه في التقرير.

وقد اتضح أن هذه القضايا سارت في مسارين رئيسيين، احدهما يتعلق بقضايا "الشأن الخاص" التي تدور في الفلك الضيق للشخص واهتماماته العائلية والعملية والاجتماعية، والآخر بقضايا "الشأن العام"، التي تدور في فلك المجتمع والوطن والهموم المشتركة قوميا وإنسانيا في آفاقها الرحبة الواسعة.

ففي قضايا الشأن الخاص رصد التقرير القضايا التي تستأثر بالاهتمام، حيث حصرها منجزو التقرير  في الترفيه عبر الأفلام والمسلسلات والنصائح والإرشادات والصحة الجسدية والنفسية عبر قضايا الطب، و الغذاء الروحي عبر القضايا الدينية، ثم إشباع النهم الاستهلاكي العصري، عبر التعاطي مع قضايا التكنولوجيا والانترنيت".

وما يستنتج من الرصد الأولي، أن قضايا الشأن الخاص، هي المهيمنة على اهتمامات الملايين من الشباب الذين ينشؤون الصفحات والمجموعات على "الفايسبوك"، وهو ما أفضى إلى تسجيل ملاحظة هامة وهي  "أن الشبكات الاجتماعية" ومنها "الفايسبوك" يمثل فضاء للتنفيس عن مكبوتات المستخدم وخواطره،  أو هو محتوى يفرج هموم ملايين العرب عبر الفضاء الرقمي، للتعبير عن آمالهم وإحباطاتهم وأخلاقهم ونجاحاتهم وفشلهم في الحياة والعلاقات الاجتماعية والانسانية".

بينما لا تستأثر قضايا الشأن العام إلا بنسبة متواضعة تمثل رقميا 30℅، وتضم 50 قضية، يختلط فيها الشأن العام مع الشأن الخاص. وهذا ما أفضى إلى استخلاص قلة الاهتمام بقضايا مثل الإعلام وحرية التعبير والتربية والمؤسسات السياسية وقضية فلسطين وحقوق الإنسان وما إلى ذلك. فهل يمكن القول إن هذه النتيجة جاءت مخالفة لما يتداول في الساحة الفكرية، من أن من بين المؤثرات القوية  التي ساهمت في تسريع وثيرة الثورات العربية هي التكنولوجيا ممثلة في وسائط "الشبكات الاجتماعية" ؟

لا يمكن الاستسلام لهذه الخلاصة، لأن الأمر يقتضي تحليل حركية مستعملي الانترنيت، فرغم أن البحث توصل من الناحية الكمية إلى هيمنة قضايا الشأن الخاص، حيث يتم ترويج مضمون ضخم من  هذه القضايا، كالبحث عن أحسن أغنية، أو أفضل مباراة، أو أجود فيلم... ، فإن ذلك يبقى دون تأثير كبير، لكن عندما يتعلق الأمر بقضايا سياسية، تروج لمقولات وخطابات ضد الفساد والريع والاستبداد والقمع والتفقير والتزوير...، فإن تأثيرها يصبح قويا وعنيفا. ولفهم ما حدث في العالم العربي من ثورات سريعة، وأحداث متلاحقة، فإن ذلك "لا يخرج عن تحركات الفئة القليلة المهتمة بالشأن العام، عبر الانترنيت والفضاء التفاعلي، خلال العام 2010، قابلها نشاط لفئة مماثلة في الواقع الفعلي، وحينما تلاقت حركة الفئتين لعب "الفايسبوك" ومختلف الوسائط، دور القائم بالتنظيم والحشد والدعم اللوجستيكي والبيئة الحاضنة للأفكار، والوسيط السهل السريع للتواصل، وتبادل المعلومات للقابلة للتوظيف اللحظي".

والخلاصة التي توصل إليها منجزو التقرير هو أن الفضاء التفاعلي الرقمي منح الجمهور العربي قدرا من التمكين والسيطرة على تحركاته وخياراته، وإن الجمهور تجاوب مع هذه الميزة النسبية، وقام باستغلالها وتوظيفها بوضوح.

2) على المستوى الخاص:
ما ذا نقصد بالمستوى الخاص؟ تشكل عملية التصنيف بين العام والخاص مسألة حيوية في هذا التقرير، إذ أن القراءة العامة تمكننا من فهم السمات والملامح الكبرى لما يتداول في الفضاء الرقمي، لكن تدقيق المعطيات وتحليلها يحتاج إلى مستوى خاص، ونقصد به القضايا المثارة في كل وسيلة من وسائل الاتصال المتوفرة، والتي تتوزع على: المدونات، والمنتديات، و"الفايسبوك".

وقد اجتهد فريق البحث لاستخلاص أهم القضايا المتداولة في هذه الوسائط، مركزا على شدة تكرارها، حيث أنه من أصل 53 قضية مثارة، ثم تكثيف عملية الاستقصاء في 20 قضية، موزعة بين الشأن العام والخاص. وعن عملية الاختيار، فقد ثم التوصل إلى معايير علمية، كحجم ما أنتج حول القضية من محتوى ومشاركات، أو طبيعة رد الفعل الجماهيري تجاهها، أو نمط الاهتمام بها طوال العام، أو خريطة انتشارها في الدول العربية.

أ‌) أهم القضايا المتداولة في المدونات.
من خلال تحليل المعطيات الخاصة بهذا الوسيط، فإن قضية الثقافة والفكر والأدب هي قضية دونات بالدرجة الأولى، وليست قضية "منتديات" أو "فايسبوك" وهذه نتيجة أقرب إلى المنطق والمتوقع، لأن القضايا الفكرية والثقافية تحتاج إلى تمهل وروية وقدر من الصبر لمتابعتها والمشاركة في النقاش الدائر حولها، وهذا يناسب المدونات كقالب نشر طويل النفس أكثر من المنتديات ذات "السرعة المتوسطة" في الأخذ والرد والتعليق، وأكثر ما يناسب "الفايسبوك" ذو السرعة الأعلى في العرض والتناول والمناقشة.

وقد برزت المنتديات السودانية والعمانية، كإحدى الدول العربية التي تحظى باهتمام بالغ من طرف الشباب، بينما المنتديات المغاربية تسجل ضعفا في التعاطي مع القضايا الفكرية والثقافية.

ومن بين القضايا التي شغلت اهتمام الشباب، نجد قضية "إسرائيل" ورغم ترتيبها على مستوى المدونات الذي ينزل بها في المرتبة الثامنة، فإن المدونات العراقية أظهرت اهتماما كبيرا فاق كل الدول العربية. وتطرح النتيجة العامة لتداول قضية "إسرائيل" في الفضاء الرقمي بنسب محتشمة أكثر من سؤال، هل يرجع ذلك إلى التعامل الموسمي مع القضية م أي عندما تقع أحداث دموية فقط؟ أم أن ذلك مرتبط بثقافة التعامل مع الفضاء الرقمي والذي لا يظهر اهتماما بمثل هذه القضايا المصيرية؟ أم أن الأمر يعود في جزء منه إلى ترتيب الأولويات عند فئة الشباب  المستعمل للمنتديات، حيث يفضل القضايا الثقافية والفكرية على القضايا ذات الطابع الصراعي الوجودي؟

ومن المفاجئات التي حملتها نتائج هذه الدراسة الهامة حول المنتديات، أن قضية الحرية وحقوق الإنسان ليست قضايا جماهيرية، حيث لم يستقطبا إلا عددا قليلا من التعليقات والمناقشات والمتابعات، إلا أنه مع بدء الحراك الشعبي في الوطن العربي أواخر سنة 2010، ستتحول هذه القضية إلى قضية تستقطب مزيدا من الاهتمام.

إلا أنه بالرغم من التوصل إلى هذه النتيجة، فإن وجود اختلافات بين الدول العربية يعد مؤشرا آخر لقراءة التعاطي مع قضية الحرية في المنتديات الالكترونية، حيث  موقعت المدونات السورية قضية الحرية في المركز الأول من اهتماماتها، وتليها الدولة الفلسطينية ثم السودانية  ثم اللبنانية ثم السعودية.

ولتفسير سبب ضعف الاهتمام بقضية حرية التعبير في المدونات، فإن الأمر يرجع في كون الفئات الأكثر استعمالا للفضاء الرقمي، وهم في الغالب ممن أعمارهم الأقل سنا وتعليما، هذه الفئة تستهويها صفحات "الفايسبوك".

من بين القضايا التي تم التوقف عندها في متابعة ما يجري في المدونات الالكترونية، القضية الطائفية، حيث يسود اعتقاد أن من أسباب انتشارها الانترنيت، عبر ما يتيحه من فضاء غير منضبط، أمام من يسعون وراء تأجيجها لغرض أو لآخر، "لكن عند تحليل أوضاع القضية الطائفية في الفضاء الرقمي التفاعلي عبر الانترنيت، اتضح أن جمهور المستخدمين العرب في هذا الفضاء لا يحفل بهذه القضية، وربما يبدو غير مكترث بها أصلا. و أول ما يدل على ذلك هو ضآلة عدد الموضوعات التي يبحث عنها ويناقشها أو يتابعها تحت مظلة هذه القضية".

لكن إذا ما نحن دققنا في المعطيات الواردة في التقرير، نجد أنه على مستوى الانتشار الجغرافي، نلاحظ فروقا دالة، إذ تتموقع الطائفية كقضية مركزية في المدونات العراقية ، تليها البحرينية والكويتية والمصرية واليمنية، ولعل تفسير ذلك مرتبط بانتشار الطوائف الدينية في هذه البلدان.

وهذا ما يسلمنا إلى نتيجة منطقية وهي أن الطائفية تعتبر قضية  نخبوية وليست جماهيرية.

ومن بين ما أفرز عنه هذا التقرير، هو اكتساح "التدوين النسائي" لتسع دول عربية، ففي منطقة الخليج سجلت المدونات النسائية في السعودية 70℅ مقابل 30℅ للذكور، وفي قطر تقدمت الإناث ليمثلن 76℅، وفي الإمارات حققن 75℅، وفي المغرب العربي، وصلت النسبة في الجزائر إلى 82℅ للنساء، وفي تونس 52℅، وفي السودان كانت النسبة متعادلة مع الرجال".

تقود هذه النتيجة إلى أن إقبال المرأة العربية على المشاركات في الرأي، في القضايا المختلفة، عبر المدونات لا يقل عن إقبال الذكور، بل يتفوق عليه في كثير من الأحيان، خصوصا في المجتمعات العربية التي تصنف في كثير من الأحيان كمجتمعات محافظة، فيها بعض القيود على حركة المرأة ونشاطها، وربما يقودنا ذلك لاستنتاج أن المدونات كانت متنفسا وبديلا مريحا بالنسبة إلى السيدات في هذه المجتمعات، للتعبير عن الرأي والمشاركة في القضايا المختلفة.

ب‌) أهم القضايا المتداولة في "الفايسبوك":
على خلاف الاهتمامات التي تثار في المدونات كقضايا الفكر والثقافة والأدب وما إلى ذلك، فإن أهم القضايا المستقطبة للاهتمام في موقع "الفايسبوك" هي الخواطر والمشاعر في المركز الأول، ثم تليها القضايا الدينية، ولعل هاتين القضيتين مما يمكن الباحثين في العلوم الاجتماعية، من فهم الخريطة الذهنية والسوسيونفسية للشخصية العربية الشابة، فحاجتها للتنفيس عن النفس عبر الخواطر والمشاعر، خصوصا عند فئة الفتيات، دليل على تصدع الكيان الأسري وهشاشة الروابط الاجتماعية. أما القضية الدينية فهي ما يمكن أن نسيمه "بأيقونة الفئات الشابة" لأنها تلبي حاجات متعددة لإشباع الطلب المتزايد على القضايا الدينية، ويدل من جهة أخرى على شبه غياب المؤسسات الرسمية وغيرها في مجاراة الطلب المرتفع حول الدين.

ولعل تفسير احتلال القضايا الجوابية كالمشاعر والخواطر للمركز الأول في "الفايسبوك" يدل على أن هذا الموقع تحول إلى مصدر من مصادر إنتاج وإعادة إنتاج معاني الرحمة والتضامن والتآزر والإحساس بالآخر، وكأنه أصبح "صدرا حنونا يتلقى زفرات وآهات وتأملات وآمال وطموحات... ملايين العرب الذين استخدموه كاختيار أول بلا منازع.

وكما ألمحنا سابقا، فإن التفوق النسائي بارز في هذا المجال، حيث وجدت النساء متنفسا سهلا وسريعا للتعبير عن مشاعرهن الفياضة وما يخالجهن كزوجات أو كأمهات أو كصديقات، أو كإناث وتارة أخرى كعاملات.

أما على مستوى الانتشار الجغرافي لخريطة التعبير عن الخواطر والمشاعر، يأتي الأردنيون والإماراتيون والبحرينيون والسوريون والعمانيون والقطريون في المقدمة وعلى قدم المساواة، ويتبعهم في ذلك السعوديون والكويتيون واليمنيون والعرب المقيمون في الخارج والفلسطينيون واللبنانيون، وفي مجموعة ثالثة جاء الجزائريون والعراقيون والمغاربة والليبيون.

أما ثاني قضية مركزية هيمنت على صفحات "الفايسبوك" من خلال البحث المتميز الذي أشرف عليه خبراء من "مؤسسة الفكر العربي" سنة 2010، وشمل جل الدول العربية، فيتجلى في القضايا الدينية، حيث أنه إذا "كانت قضايا السينما والأغاني والتلفزيون والفضائيات والرياضة هي المثلث الذي شكل أكبر نسبة انتشار بين مستخدمي الفضاء الرقمي التفاعلي العربي، فإن القضايا الدينية كانت هي الحصان الأسود أو فرس الرهان القوي المنافس للقضايا الثلاث معا، على عقول المواطنين العرب وقلوبهم وعواطفهم وتصرفاتهم وردود أفعالهم، سواء ممن يكتبون وينشرون أو ممن يقرأون ويتابعون".

ومن بين القضايا التي تشكل الطلب على الدين، سجل الباحثون "وجود أكثر من 26 موضوعا اهتم به المواطنون، وهي: الأدعية، والأناشيد، والأزهر، والاقتصاد الإسلامي، والأنبياء والرسل، والتطرف الديني، والتوحيد، والخطاب الديني، والخلافة، والربا، والرقية الشرعية، والسنة النبوية، والشريعة الإسلامية، والفتاوى الدينية، والكتب المقدسة..."

ومن بين أبرز النتائج المتوصل إليها في هذا البحث غير المسبوق، نجد أن القضايا الدينية تعكس حالة من التساوي في درجة الاهتمام بين جميع الدول العربية المختلفة، وهذا ما يجعلنا نستخلص أن  مستوى التدين والعمق الروحي للمواطنين العرب، ويد أيضا أن "الإيمان والتدين سمة عامة راسخة بدرجة متساوية عند الغالبية العظمى من الشعوب العربية".

ولعل هذه الخلاصة تثير بعض المفارقات في ذهن المتتبع، عندما يقارن بين قوة الاهتمام بالقضايا الدينية وبين الاهتمام بالأغاني والمسلسلات والأفلام ومباريات كرة القدم، فيمكن القول إن الفضاء الرقمي التفاعلي يشكل موردا ضخما للغذاء الروحي والإيماني، جنبا إلى جنب مع كونه موردا ضخما للغذاء الوجداني والترفيهي. وهذا الأمر يسلمنا إلى خلاصة على قدر كبير من الأهمية فيما نعتقد، وهو أن الملامح العامة لحركة العرب في الفضاء الرقمي التفاعلي تعكس قدرا لا يستهان به من التوازن أو التعارض أو التناقض بين التيارات المختلفة، وقد تعكس تشظيا  في الهوية العربية، مما يستحثنا كباحثين من استجلاء هذه الصورة البانورامية، من خلال أبحاث ومقاربات أكثر عمقا وتدقيقا وأكثر تفسيرية.

ج) أهم القضايا المتداولة في المنتديات:
"استطاعت التدوينات المتعلقة بالخواطر الشخصية (الحب والمشاعر والكره واليأس وغيرها) أن تحقق المركز الأول في جذب انتباه الجمهور وجعله يتفاعل معها هي أولا، فقد استحوذت هذه القضية على 13℅ من تعليقات الجمهور وهذه النتيجة تتفق وروح عالم التدوين الذي يقوم على الفردية والتعبير عن الذات، ويبدو جمهور التدوين العربي متوافقا مع النزعة العامة لجمهور المدونات عالميا، من حيث الاحتفاء بالمشاعر الإنسانية والتفاعل معها أكثر من غيرها".

أما عن القضايا الأخرى التي برزت في المنتديات، فقد توقف فريق التقرير عند العشر القضايا الأولى، ومن بينها القضايا الدينية والتي لم تفقد قدرتها على التأثير حيث اجتذبت 10℅ من الجمهور، ثم تلتها بعد ذلك قضايا السينما والأدب والثقافة وقضية فلسطين والرياضة والانترنيت والمعلوماتية و"إسرائيل" والقضايا الاجتماعية والمؤسسات السياسية والإعلام وحرية التعبير".

تماشيا مع المنهجية المعتمدة في البحث، والتي تقتضي تحليل النتائج في ضوء متغيرات السن والجنس والمستوى الدراسي والانتماء الجغرافي، فإن التحليل أسفر عن نتائج في غاية الأهمية، حيث تبين أن الإناث أكثر نشاطا من الذكور، أما من حيث السن فإن الفترة العمرية من 18 إلى 25 سنة فقد شكلت أكثر الفئات حيوية ونشاطا في المنتديات، وقد شكلت القضايا المفضلة لديها حسب الأولوية :الأفلام والسينما، رغم أن هذه النسبة لم تظهر إلا في ثلاثة دول من أصل 19 التي أجري حولها الاستقصاء، أما القضية الثانية التي تستقطب هذه الفئة فهي القضايا الدينية. وعموما يمكن القول "أن القضايا التي انشغلت بها المنتديات العربية في العام 2010 هي قضايا انشغل بها من هم في العشرينيات والثلاثينيات من العمر، داخل البلدان العربية، والذين يشكلون المحور أو مركز الثقل الأساس من حيث السن داخل المنتديات العربية. أما الفئات العمرية الأخرى فهي تدور حولهم في مارات هامشية غير مؤثرة بصورة كبيرة"

بالموازاة مع هذه النتيجة، فإن الحضور النسائي داخل المنتديات مصحوبا عادة بالحيوية والنشاط العالي في مناقشة القضايا داخل المنتديات، بينما يحدث العكس مع الذكور الذين حينما يظهرون يكون ظهورهم مصحوبا بتدني في الحيوية والنشاط والإنتاجية.

ومن بين الملاحظات التي يمكن التوقف عندها على مستوى التمثيل الجغرافي في بلدان الوطن العربي، نجد أن السعودية تحقق أعلى النسب في الحضور النسائي، وهو ما يجعلنا نستشف أن "المرأة السعودية لاعب محوي وأساسي في الأنشطة والمشاركات الجارية في القضايا المثارة عبر مجتمع المنتديات العربي. وبالطبع لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن السياق الاجتماعي السياسي الاقتصادي الذي تعيش فيه المرأة السعودية، والذي إما أن يوفر لها المنتديات على الانترنيت، أو يدفعها إليها تارة لسد الفراغ وتارة لأنها القنوات الأكثر إتاحة للتعبير والمناقشة وإثبات الذات". وهذا لا يعني أن بقية الدول العربية لا تستقطب  منتدياتها فئات النساء، بل إن ما أسفرت عنه النتائج حسب الجنس، يبين أننا أمام ثورة نسائية جديدة أو ما سماه التقرير ب"دولة نساء" أي أن المنتديات  أصبحت تشكل المجال الحيوي للنساء الشابات للتعبير عن ذواتهن وطموحاتهن، وهو ما يعد في نظرنا تحولا قيما دالا وعميقا.

أما إذا تقدمنا في سبر النتائج المتوصل إليها من حيث متغير المستوى الدراسي، فإن الملاحظ هو أن الفئات الأقل تعليما هي الأكثر والأنشط على مستوى المنتديات، وهو ما يخالف ما هو سائد في الحس المشترك، ولهذا فالكتلة الحرجة النشطة داخل المنتديات هي بالأساس من الفئات الصغيرة ومن مستوى التعليم ما قبل الجامعي، أم حضور الفئات المنتمية للتعليم ما بعد الجامعي فقد كان حضورها قليلا وإنتاجها ضعيفا وحيويتها هزيلة".

ولعل ذلك ما يفتح باب التفسير على مصراعيه للتأكيد أن مجتمع الجامعة بما يحمله من تغييرات وصعوبات وإكراهات على مستوى الدراسة والتحصيل العلمي، والتقلبات على المستوى الفكري والسلوكي، والانشغالات الأخرى المرتبطة بالحياة الطلابية، يمكنها أن تفسر إحجام هذه العينة عن الاستغراق في تنشيط المنتديات وتغذيتها بالمناقشات والأفكار، لأن هذه الفئة ربما تجد المتنفس في الفضاءات الجامعية للتعبير عن مكنوناتها وعن ما يخالج أفكارها، وبالتالي تستعيض بها،  ولو جزئيا عن هذه الوسائط الافتراضية.

ثالثا: خلاصات واستنتاجات:
لاشك أن موضوع البحث حول "قضايا الشباب على الانترنيت" يعد واحدا من الأبحاث الجديدة في الساحة العربية، إذ أن حجم الاستعمال المتزايد يوما بعد يوم، وكثافة القضايا التي يتم تداولها فيه والعينات التي تنتج وتعيد إنتاج واستهلاك هذه المواد، يشكل واحدا من المواضيع الهامة التي وجب أن يلتفت إليها الباحثون العرب، من أجل فهم الخريطة الالكترونية وشرحها وتفسير سلوك المواطنين اتجاهها، واستشراف المستقبل من خلال النتائج المتوصل إليها.

في هذا السياق كشف البحث الذي قمنا بعرض أهم نتائجه عن مجموعة من الخلاصات يمكن أن تشكل منطلقا للتحاور بشأنها، أولى هذه الخلاصات المركزية:

- أن العرب بدأوا يستخدمون أدوات الفضاء الرقمي ويوظفونها، مثل ملايين الناس حول العالم، فهم ينتجون موجات متلاحقة من البحث عن الترفيه والجنس والأغاني، لكن الإرث الحضاري والديني الموجود لديهم يعمل على ترشيد هذه الموجة، وبدأوا يستخرجون من تحت ركامه توجهات عظيمة القيمة عميقة الأثر.

- لا تشكل القضايا الفنية والغنائية والكروية والجنسية، تأثيرا على مجموع مستعملي الوسائط الفضائية من منتديات ومدونات وشبكات اجتماعية، رغم الحجم الكبير لمنتجاتها، ولهذا فهذا المضمون الرقمي الافتراضي  يتحرك حركة ضخمة لكنه غير مؤثر، بينما حركة الأقلية النشطة التي تهتم بالشأن العام، كالقضايا السياسية  وما يدور في فلكها من فساد  وحرية ونزاهة وديمقراطية واقتصاد الريع وما إلى ذلك من القضايا، فإنه  يحدث من التأثير الشيء الكثير ويكون أبلغ في الوصول إلى الجماهير، خصوصا من فئة الشباب، لأنها هي المروج لها والمستهلك في الآن نفسه، ولعل ارتفاع منسوب الوعي السياسي والاحتجاجي المتماهي مع الحركات الشبابية التواقة للحرية والكرامة والديمقراطية، شكل الوقود المحرك لما سمي بالربيع العربي في سنة 2011.

- لعل من بين الخلاصات الأساسية التي يمكن التوقف عندها، هو الاختلاف الجوهري بين ما يروج له الإعلام التقليدي والإعلام الحديث، فالقضية المذهبية والطائفية، رغم أنها تشكل بؤرة النقاش العمومي في بع القنوات الفضائية، فإنها في الوسائط الالكترونية لا تحظى بنفس القيمة والأثر  مما يسقط بعض المسلمات والأحكام الجاهزة حول هذه المواضيع، وهذا ما يحيلنا على خلاصة أخرى وهي أن قضايا النخبة لا تعكس بالقدر نفسه قضايا المجتمع.

- الحضور النسائي في الفضاء الرقمي، وخصوصا من فئة الشابات، مؤشر قوي على وقوع تحولات عميقة في بنية المجتمع العربي، وفي منظومته القيمية، فالنساء بدأن التعبير عن ذواتهن بطرق لم نعهدها في السابق، وبأشكال مختلفة عن الطرق التقليدية، ويزاد هذا الأمر بروزا في بعض المجتمعات التي كان البعض ينعتها بأنها "مجتمعات غارقة في التقليداوية والمحافظة" ولبرما فإن هذا الحضور يؤشر على ولادة جديدة ل"مجتمع النساء".

- رغم الحضور القوي للقضايا الدينية في الوسائط الأكثر ذيوعا في الإنترنيت "الفايسبوك"، فإن الكتابة في هذه القضية تتميز بأنها كتابة تحدث من الجلبة أكثر مما تحدث من التأثير، ولعل مؤشرنا في ذلك، كون "الجمهور يتعامل معها بسطحية وبصورة عابرة لا تنم عن تأثير" ، ولهذا فبقدر ما نسجل الحضور المكثف للدين في هذه الوسائط، فإننا نخشى من تحويله إلى "منتوج" بدون "استهلاك"، أو إلى صدى بدون رجع.

- يمكن القول أن الفئات الأقل تعليما هي الأكثر والأنشط على مستوى الوسائط الافتراضية، وهو ما يخالف ما هو سائد في الحس المشترك، ولهذا فالكتلة الحرجة النشطة داخل الوسائط الافتراضية هي بالأساس من الفئات الصغيرة ومن مستوى التعليم ما قبل الجامعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون