كتبهاعبد اللطيف المصدق ، في 13 يوليو 2012
إلى عهد قريب، وقبل حلول موسم الربيع العربي الذي دخل عامه الثاني، كان التدوين باللغة العربية علامة مضيئة في سماء الإنترنت العربي تكاد تغطي على ما سواها.
وربما لا زال الكثير منا يذكر بشوق وحنين غامرين ذالك الحراك التدويني الهائل الذي عرفته مواقع الاستضافة المجانية العربية والأجنبية، وخاصة على موقع "مكتوب" بجميع نسخه القديمة وقبل أن ينضوي تحت مظلة محرك "ياهو" العملاق، وبما لا يقل عن سبع سنوات مضت على التحاقي بزمرة المدونين على هذا الموقع.
ولم يكن موقع "مكتوب" إلا نموذجا واحدا من عدد لا يكاد يحصى من المواقع العربية الأخرى التى فتحت قواعدها ومنصاتها لإطلاق صرخات البوح أمام المواطنين العرب على اختلاف أعمارهم ومشاربهم واهتماماتهم، مع بداية الألفية الثالثة، وذلك عندما كان لفن البوح بالكلام أثر وقيمة في النفس وفي العقل وفي الوجدان وحتى قبيل انطلاق الشرارة الأولى من ثورة الشعوب العربية على حكامها المستبدين التي جاءت متزامنة مع ثورة "الفيسبوك" و"التويتر".
أما موقعا "الورد بريس" و "البلوغ سبوت" التابع لشركة "كوكل" فقد كان بالنسبة لكثير من المدونين العرب أفضل المواقع الأجنبية وأكثرها أمنا وحرية واستقرارا ومرونة وجاذبية.
ولا زلت أذكر المجهود الكبير الذي بذله كثير من شباب العرب ذوي المهارات العالية في البرمجة وفي التقنية وفي تصميم المواقع والصفحات الرقمية لتعريب كثير من قوالب هذين الموقعين الأجنبيين وذلك قبل أن ينتقلا إلى دعم اللغة العربية دعما كاملا في نسخهما اللاحقة. وهذا دون أن ننسى كثيرا من المدونات ذات النطاق المملوك. وقد كان لبعضها إشعاع متميز يجعلها من أمهات المراجع الرقمية المتخصصة في قضايا التدوين والمدونات، دون أن ننسى أيضا منتديات العرب المرتبطة بالتدوين العربي وبمشاكله وبتقنياته. فهي خير دليل على مجهود الشباب العربي ورعايته لبيئة التدوين المكتوب باللغة العربية رعاية تامة بما يدعم المدون المبتدئ دعما كاملا من ألفباء التدوين إلى يائه وبما ينهض بمستوى التدوين العربي شكلا ومضمونا.
وتلك أيام مضت، أما اليوم فأكاد أجزم بأن شمل العرب المدونين قد تبدد، وأن العهود والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم قد صارت حبرا على ورق، أو بالأحرى وبعبارة رقمية مناسبة لسياق كلامنا هذا: "سوادا على بياض الشاشة"؛ فقد صرف الشباب العربي النصف الأول من اهتمامه في اتجاه مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة موقعا "الفيسبوك" و"التويتر"، أما النصف الثاني ففي اتجاه أنظمة أجهزة "الأندرويد" و "الأيفون" و"الأيباد"وما يرتبط بها من برامج وتطبيقات وأنظمة تشغيل شديدة التعقيد والتنوع والحساسية.
كنا بالأمس نخاطب أشخاصا مثلنا عبر الكتابة، وكانت كل كتابة أو تدوينة تستدعي تعليقا أو تعقيبا أو تصويبا أو توجيها، وكان كل كاتب أو مدون يستدرك ما فاته من خلال ردود الآخرين، ويصحح مساره في الكتابة والتدوين من خلال العلامات والإشارات التي ترفع في وجهه من هنا وهناك، ومن حيث يدري ولا يدري. وخاصة إذا كانت تلك التعليقات طرية أو فورية، وكان الكاتب أو المدون ينتظر تلك الإشارات وتلك التعليقات بشغف واهتمام كبيرين لأنها الدليل على وجوده وقوة نبضه ودرجة حضوره ونشاطه التدويني المستمر بدون انقطاع، وكان ارتفاع مؤشر عداد الزوار لصفحاته بمثابة الوقود المجدد لطاقته تلك…
أما اليوم فما عدنا نخاطب أشخاصا بأعيانهم وإنما نخاطب أجهزتنا المحمولة نسألها فتجيب، ونستخبرها فتخبر عن أي شيء؛ عن الساعة وعن الطقس وعن المكان وعن الزمان وعن أسماء الأشخاص المعروفين في كل بقاع الدنيا، وعن الماضي والحاضر وحتى عن المستقبل، عن ما يقربك وعن ما يبعدعنك، وعن أثمان السلع وعن أي شي وحتى عن لاشيء…
وحتى إذا مللت من البحث ومن القراءة فهي تبحث بدلا عنك وتقرأ لك وأنت مغمض العينين وفي وضع مستريح من غير أدنى جهد أو كلفة عند التحديق الطويل في الشاشة المضيئة وفي التقليب المتوالي للصفحات .
صارت هذه الأجهزة المحمولة أقرب إلينا من حبل الوريد؛ تعرف ما بنا وما يهمنا فتجلب لنا ما نريد من أخبار وصور ومقاطع الفيديو والموسيقى، وقد تتسوق بدلا عنا حذاء أو غذاء مناسبا، وتعرف درجة حرارتنا وعدد نبضات قلبنا وطبيعة عمل كافة أجهزتنا الباطنية لمجرد لمسة بسيطة بالأصبع لعينها السحرية (أقصد عدسة التصوير ).
لقد تغيرت أشياء كثيرة في عوالم الاتصال التقني في هذه الأيام، وصارت كثير من الأجهزة التقنية تحاكينا نحن الآدميين، في أقوالنا وأفعالنا وتصرفاتنا وحركاتنا… وبدأت تملك علينا وقتنا ونفسنا وعقلنا ولساننا أيضا..
وأعتقد أن ما تملكه هذه الأجهزة علينا هو ما تأخذه منا؛ من كياننا من عقلنا ومن سمعنا ومن بصرنا ومن لساننا.
وربما سيأتي على الإنسان حين من الدهر سيفقد فيه القدرة على المناورة بالكلام كما كان ذات يوم، وخاصة ذلك الكلام البليغ الذي يحلق بعيدا في أجواء المجاز والاستعارة.
وإن ما تعرفه مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى بعض مواقع الإعلام الرقمي المتخصص من ضحالة وإسفاف لمؤشر خطير على ما تعرفه اللغة العربية من تآكل خطير يهم جوانبها البلاغية وقواعدها المعيارية خاصة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق