رنا غوش
عند مطالعة التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسّسة الفكر العربي في بيروت (2011، ص.115 – 138) تبرز دلالات مهمّة حول التفاعل العربي على الإنترنت. فثمة ما يفسر التأثير المتبادل بين الحراك في الفضاء الرقمي ونظيره في شوارع العديد من دول الوطن العربي اليوم وميادينه. إن ما ينتشر ظاهرياً على الإنترنت أو ما يتصوّر الناس أنه منتشر من قضايا لا يعني بالضرورة أنه منتشر بالفعل أو أنه موضع اهتمام حقيقي من أحد. فالفضاء الرقمي التفاعلي العربي، بقنواته الثلاث (مدوّنات، منتديات، فيس بوك) مرشّح للتوسع في الحجم وللنضج في الأداء بمرور الوقت؛ إذ وفّر بيئة خصبة أمام شريحة لا يستهان بها من المواطنين العرب، من أجل إنتاج وتداول المعلومات الخاصة وتوزيعها وتوظيفها في أكثر من خمسين قضية، بعيداً من المراكز العليا لاتّخاذ القرار في المجتمع.
ارتفاع التوظيف السياسي مقابل الترفيه
في الآونة الأخيرة شكّلت الشبكات الاجتماعية والمدوّنات والقوائم البريدية والمواقع والمنتديات، التي تعمل بأدوات الجيل الثاني للويب، البنية التحتيّة لأنشطة الويكي. فالعرب بدأوا يستخدمون ويوظفون هذه الأدوات كغيرهم من ملايين الناس حول العالم، لكن الإرث الحضاري والديني الموجود لديهم يعمل على ترشيد هذه الموجة، فتشكّلت نواة للتعبير عن الرأي عبر الشبكة والمدونات السياسية وصفحات الفيس بوك وحسابات التويتر، وبدأ التوظيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي للشبكة يرتفع في مقابل موجة الترفيه. استطاع العرب أن يستفيدوا من معظم سمات ثقافة "الويكي" عبر الويب، ومنها: لا قيود على حرية التعبير، لا شروط للانضمام لأيّ نشاط أو مجموعة، مساواة كبيرة في الحقوق والواجبات، الحرية الكاملة في كشف شخصية العضو وإعلاء الفكرة والقيمة والإبداع وروح الجماعة على الأشخاص. وقدّم الفضاء الرقمي التفاعلي العربي إمكانية التجنيد والحشد الجماهيري ضدّ قضيّة معيّنة وإمكانية إدارة الفعاليات الميدانية من خلال إنتاج محتوى مخصّص لقضية بعينها. استناداً إلى ذلك يمكن القول إن مَن تحركوا في الفضاء الرقمي التفاعلي العربي هم نتاج مرحلة التواصل اللحظي وأنشطة الويكي. وهذا الأمر يفسر الكثير من التحركات والتفاعلات التي تجري الآن على الأرض في الوطن العربي، والتي تبدو في ظاهرها حركات اجتماعية أو جماهيرية عريضة النطاق بلا قائد محدّد، وقد تجلّت في أوضح صورها في ثورتي مصر وتونس.
فقه الأولويات في القضايا المثارة
من أبرز ما يمكن ملاحظته في التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية (ص.118) في شأن التفاعل العربي عبر الإنترنت، تلك الفروق في التعامل مع القضايا بين كلّ قناة نشر وأخرى، وبما يدلّ على أن جمهور كلّ قناة نشر كان لديه "فقه للأولويات" الخاص به. فالأرقام الخاصة بالمدوّنين تدلّ على تقدّم القضايا الجادة ذات العلاقة بالشأن العام واختفاء القضايا الخفيفة والخلافية. بحيث يُعتبر ذلك مؤشراً على وجود درجة واضحة من النضج في "فقه الأولويات" لدى المدوّنين ولدى مَن يعلقون على تدويناتهم. ويُلاحظ أيضاً أنه على الرغم من احتداد بعض القضايا على أرض الواقع وجذبها اهتمام وسائل الإعلام التقليدية خارج الإنترنت، فإنها لم تجذب مجتمع المدوّنين كما فعلت قضايا أخرى أقلّ أهمية كالمذهبية، والطائفية، والإصلاحات السياسية، والأقليات، والأزمات الدولية، والإرهاب والعنف وغيرها من القضايا المماثلة. فمجتمع التدوين العربي لديه قدرٌ واضح من المناعة ضدّ التأثّر بالإعلام التقليدي، على الأقل حيال هذه القضايا التي يراها الإعلام التقليدي ساخنة. أما في ما خصّ القضايا المثارة على الفيس بوك فمستخدموه لا يتوقفون كثيراً عند قضية السينما والأفلام والأغاني التي تتبوأ مكانة مرموقة في المنتديات والمدوّنات، فهي في الفيس بوك تحتلّ المركز العاشر والشيء نفسه ينطبق على قضايا الطبّ والصحة. لكن هذا لا يحول دون التشابه بين الفيس بوك والمدوّنات في الموقف من القضايا الخلافية المثيرة للجدل، سواء القضايا السياسية المجتمعية، مثل الأقليات والمذهبية والطائفية والتنظيمات الإسلامية، أم القضايا المثيرة للجدل أخلاقياً واجتماعياً. وتقترب المنتديات من المدوّنات لكن لا تتطابق معها. فأهمّ اهتمامات أعضاء المنتديات العربية هي قضية الأغاني والأفلام والمسلسلات التي شكلت 8.8% من إجمالي المشاركات على المنتديات. يليها قضية النصائح والإرشادات التي شكّلت 6.4% من إجمالي المشاركات، ثم قضايا الطبّ والصحة التي حظيت بنسبة 5.8%، وبفارق طفيف جاءت القضايا الدينية لتحظى بـ5.7% من مشاركات أعضاء المنتديات. وبفارق طفيف أيضاً، جاءت قضايا الإنترنت والمعلوماتية والاتصالات، واستحوذت على 5.3% من اهتمام أعضاء المنتديات.
الأقليات: من الخلف إلى الأمام
يتّضح أيضاً، ودائماً من خلال مراجعة قضايا الشباب على الإنترنت في التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية (ص.122)، أن الفضاء الرقمي التفاعلي العربي يعيش حالتين من الانتشار: الأولى حالة الانتشار الظاهري، التي تظهر من خلال الأرقام الأولية حول عدد التدوينات أو قنوات النشر المهتمة بها؛ والثانية، حالة الانتشار الفعلي، التي تُقاس بمدى قدرتها على جذب الجمهور، وإقناعه بمتابعة ما يُكتب أو يُنشر حولها، والمشاركة في التعليق عليه، والإضافة إليه، وإعادة نشره في دوائر أوسع. لوحظ مثلاً، أن أفلام السينما كانت في المركز الأول من حيث عدد المدوّنات التي اهتمت بها، لكن القضايا الدينية تقدّمت لتحتلّ المركز الأول من حيث عدد التدوينات. وتراجعت الأفلام إلى المركز الثاني والرياضة إلى المركز الثالث. وفي المقابل يُلاحظ وجود قضايا لم تحظَ باهتمام عدد ضئيل من المدوّنات، لكنها حقّقت مستوى تدوين عالياً، كما هي الحال من قضية الأقليات التي لم تكن هناك مدوّنات مخصّصة لها، ومع ذلك كانت هناك 113 تدوينة كُتب حولها في مدوّنات متفرقة. فقد احتلّت القضايا المتعلقة بالإعلام وحرية التعبير المركز الثالث عند تطبيق معامل المدوّنات إلى التدوينات. أما على الفيس بوك فوجدت قضايا تؤكّد فرضية انتشار ظاهري مخالف للانتشار الفعلي، ومنها على سبيل المثال قضية الإرهاب والتطرّف؛ فهذه القضية تنطلق من نقطة متأخرة للغاية، هي المركز الثالث والأربعين. أما أداء قضية الإعلام وحرية التعبير على الفيس بوك فيقدّم نموذجاً يجمع بين مستوى جماهيري جيد، ومنحى تصاعدي يتّسم بالاستقرار والخلوّ من القفزات الخاطفة المفاجئة وسريعة الاندثار. في قضية الخواطر والمشاعر على الفيس بوك، فقد بدا أنها كمغناطيس قوي يجذب جماهير العرب إليها ويجعلها هدفهم الأول من بين جميع القضايا الأخرى، وإن كانوا قليلاً ما يختارون علامة الإعجاب بها. فالجمهور يتعامل معها بسطحية تماماً مثل القضايا الدينية.
تفاعل جماهيري غير مسبوق
بناء على الردود والمتابعات الصادرة عمّا كتب من مشاركات، منح الفضاء التفاعلي الرقمي الجمهور العربي قدراً كبيراً من "التمكين" والسيطرة على تحركاته وخياراته، وتجاوب الجمهور مع هذه الميزة النسبية وقام باستغلالها وتوظيفها بوضوح. ففي وسائل التواصل التقليدية كانت مساحة الحركة والتفاعل الوحيدة بين القارئ والجريدة هي النظر إلى المادة التي تستهويه ثم القراءة، لكن في الفضاء التفاعلي الرقمي يبدو واضحاً أننا أمام مستوى غير مسبوق من التفاعل من خلال إبداء الملاحظات أو المشاركة في استطلاعات الرأي والحوارات مع الآخرين حول ما يقرأ. والملاحظ أن الجمهور العربي استخدم ثلاثة أنواع من التفاعل في الفضاء الرقمي التفاعلي: الأول، هو التفاعل الملاحي، الذي يتمّ من خلال التجوال في صفحات المواقع. التفاعل الثاني هو التفاعل الإجرائي عبر التواصل مع القائم بنشر المقترح أو القضية، بواسطة الدردشة الفورية أو الإحالة للوصلات النشطة. والتفاعل الثالث هو التكيّفي، من خلال تكييف المادة المقدّمة عبر الموقع طبقاً للاحتياجات الشخصية للجمهور، وفي هذا النوع تكون المشاركة أعلى. فالسعوديون هم أكثر مَن يكتب على المنتديات، وأكثر من يثير النقاش ويفتح الحوار. وهم يحتلون في ذلك المركز الأول، وهم ثاني من يجمع التعليقات حول ما يُكتب. أما المصريون فيحتلون مركز الصدارة من حيث الجماهيرية على نحو أكثر توازناً من السعوديّين؛ فما يكتبونه يحتلّ المركز الثاني، من حيث الكم بعد السعوديّين. لكن ما يكتبونه يحتلّ المركز الأول، من حيث القدرة على جذب التعليقات.
العلانية والتخفّي في تناول القضايا
واجه الباحثون في التقرير العربي الرابع للتنمية الثقافية، مساحات تعاني من غموض أو فراغ في البيانات المتعلقة بالقضايا المثارة أو بمن يثيرونها ويتابعونها ويشتركون في مناقشتها، مثل البيانات الدالة على البلد الذي تنتمي إليه وحدة التحليل. فمجتمعات التدوين العربية خارج مصر والكويت والسعودية، تعاني ضعفاً شديداً في المدوّنات التي ذكر أصحابها اسم البلد الذي ينتمون إليه. كذلك كان هناك دول اختار جميع مستخدمي الفيس بوك فيها عدم الإشارة إلى نوعهم (أو جنسهم)- ذكوراً كانوا أم إناثاً. في مقدمة هذه الدول الإمارات والسعودية ولبنان وموريتانيا. وهناك دول اختارت الغالبية الساحقة من مواطنيها عدم ذكر نوعهم، وهي مصر وفلسطين والمغرب واليمن والعراق. مثل هذه الحالات وغيرها تشير إلى واقع غير صحّي، يتعلق بثقافة المعلومات السائدة عبر الفضاء الرقمي التفاعلي العربي، وتدفع إلى القول بأنها ثقافة قائمة إما على الخوف الذي يقود إلى الحجب، أو على الجهل وعدم الوعي الذي يقود إلى التجاهل وتدنّي مهارة التعامل مع أدوات هذا الفضاء كما ينبغي. تنشأ ثقافة الخوف عن ضغوط ذات علاقة بالسياسة والأمن وغير ذلك من العوامل التي تدفع كثراً من المستخدمين إلى التخفّي خوفاً من الملاحقة. وقد تنشأ ثقافة الخوف عن ضغوط لها علاقة بالظروف الاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد السائدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق